درس السعادة مجزوءة IV: الأخلاق حصري على أحلى باك



مجزوءة IV: الأخلاق

   2- السعادة

المفهوم الثاني: السعادة
- تقديم مفهوم السعادة
تُعتَبر "السعادة" مطلبا لكل الناس، فهي الغاية التي يعملون من أجل بلوغها. لكن سعي الناس نحو "السعادة" تَعُوقه عبقات شتى ليس أقلها تعدد تمثلاتهم حولها. إذ يربط معظمُ الناس "السعادة" بتحصيل اللذات المادية أو الحسية (المال، الوفرة، الصحة، القوة، السلطة، إلخ.)، في حين يرى بعضهم أن "السعادة" قائمة على تحقيق اللذة مطلقا كنوع من الإشباع أو الرضى المعنوي (طمأنينة النفس، الارتياح والسكينة، الابتهاج والسرور)، ثم هناكـ فئة تَعُدُّ "السعادة" مرتبطة بـ"الكمال" أو "الفضيلة" كغاية قُصوى للوجود الإنساني (الحقيقة، الخُلود، الجنة). ومن البَيِّن أن كل امرئ يُحدِّد "السعادة" من خلال ما ينقصه أو يفتقده في شخصه أو حياته، بحيث يظن أن تحقيق مطلبه هو وحده الذي سَيُمَكِّنُه من بلوغها. وعموما، فإن موضوع "السعادة" يرتبط بطرح مشكلة تحديد غايات معقولة للفعل الإنساني في هذا العالم، من حيث إن تحديد هذه الغايات يتعلق بإعطاء معنى لوجود الإنسان ضمن هذا العالم بشروطه المُحدِّدة، ومن ثم إعطاء معنى للعمل الإنساني نفسه من الناحية العقلية والأخلاقية.
- الوضعية-المشكلة
تُعَدُّ "السعادة" مطلبا عاما لكل الناس أو لمعظمهم. لكن كيف يمكن تحديد معنى "السعادة"؟ هل هي مبدأ مُحَدِّدٌ لوجود الإنسان أم أنها غاية مُوَجِّهة لِأفعاله؟ هل تقوم على طلب اللذات المادية والحسية بالعمل على إشباع حاجات البدن أم أنها تتمثل في الوصول إلى إرضاء مطالب العقل أو الوجدان؟ كيف يمكن تحقيق "السعادة" عمليا؟ ما هي أنجع السبل للبحث عن السعادة؟ هل تحصل بالتأمل والاجتهاد أم أنها مسألة حظ وصدفة؟ هل هي مسألة شخصية وفردية أم أنها مسألة جماعية مرتبطة بتدبير شؤون المجتمع على نحو يُؤدي إلى نوع من التعاون والتضامن بين الناس؟ ما علاقة "السعادة" بـ"الواجب"؟ إلى أي حَدٍّ تُعَدُّ "السعادة" واجبا؟ وأي نوع من الواجب هي؟ هل هي واجب نظري مجرد أم أنها واجب عملي وأخلاقي؟ وهل هي واجب فردي وشخصي أم أنها واجب مدني وجماعي؟      
1- تمثلات السعادة
- تحديد الإطار الإشكالي: ما هو معنى "السعادة"؟ كيف يتمثل الناس "السعادة"؟ وما هو مدلولها عند الفلاسفة؟
- مفاصل المعالجة
يرى أفلاطون (Platon) أن "السعادة" تتعلق بتدبير شؤون "المدينة" على نحو يجعل كل واحد ينصرف إلى أداء ما يجب عليه القيام به وفق مؤهلاته الطبيعية، مما يؤدي إلى انسجام فئات المجتمع، وهو الانسجام الذي على أساسه يتأتى انسجام أو اعتدال قُوَى النفس بحسب ما تقتضيه الفضيلة. ومن هنا فإن السعادة غاية تسعى إليها "المدينة" كمجتمع من الفئات والقُوى التي يُمكِن تحقيق التكامل والتضامن فيما بينها.
ويذهب أرسطو (Aristote) إلى أن "السعادة" غاية في ذاتها، فلا نطلبها كوسيلة تُمكِّنُنا من بلوغ شيء آخر، بل كل ما نبحث عنه لا نبتغيه في ذاته وإنما باعتباره خادما لغاية قُصوى هي "السعادة" التي تكتفي بذاتها فتجعل الحياة مكتملة ومرغوبا فيها. إن السعادة كخير أسمى تُشكِّل غاية لأفعالنا المتعلقة بممارسة التأمل العقلي وفق ما هو خير وجميل، أي وفق ما تقتضيه الفضيلة الخاصة بكل فعل. فما يُمَيِّز الإنسان عن الحيوان إنما هو كونه عاقلا على نحو يجعل فعله يتفق مع الفضيلة. وما دامت هناكـ فضائل عديدة، فإن فعل الإنسان لا يكون كاملا حتى يتفق مع أكمل فضيلة بحيث تتم الحياة وتكتمل في بلوغها أقصى غاية التي هي "السعادة".    
ومن جهة أخرى، يؤكد مسكويه أن معظم الفلاسفة يُجْمِعُون على أن "السعادة" ترتبط بتحقيق الفضيلة على مستوى قُوى النفس، وهي فضائل أربع: الحكمة للقوة العقلية، العِفَّة للقوة الشهوية، العدالة للقوة العملية، والشجاعة للقوة الغضبية، بحيث لا يُحتاج بعدها إلى أي فضيلة من داخل البدن أو من خارجه، بل إن الإنسان إذا حَصَّل هذه الفضائل، فإنه لا يَضُرُّه أي نقص في بدنه أو في حاله سواء كان مرضا أو فقرا. لكن هناكـ بعض الفلاسفة (مثل الرواقيين وبعض الطبيعيين) الذين يجعلون البدن مُشاركا في تحصيل السعادة، حيث إن النفس لا تكتمل سعادتها إلا إذا شملت البدن وما يتعلق به. غير أن المُحقِّقِين من الفلاسفة يُؤكدون أن السعادة شيء ثابت غير زائل، وأنها أشرف الأمور وأكرمها، مما يجعلها مرتبطة بالنفس (العقل والفضيلة) ومنفصلة عن الحظ والبخت.
- تركيب واستنتاج
تختلف تصورات الناس حول "السعادة"، فمنهم من يرى أنها تتمثل في إشباع اللذات البدنية، ومنهم من يميل إلى اعتبارها مرتبطة بإرضاء المطالب النفسية والوجدانية، في حين يذهب آخرون إلى أنها قائمة على الاستجابة إلى اللذات العقلية الخالصة. من هنا، نجد أن كنط يؤكد أن "السعادة" مشكلةٌ بدون حل، لأنها ليست مفهوما من بناء العقل المجرد، وإنما هي مثالٌ من صنع الخيال مرتبط بالتجربة العملية. وعلى الرغم من ذلكـ، فإنه يمكن تحديدها بكونها « إرضاء كل رغباتنا مهما بلغ تنوعها واشتدادها وامتدادها».  
2- البحث عن السعادة
- تحديد الإطار الإشكالي: هل "السعادة" ممكنة؟ وكيف يمكن الوصول إليها؟ هل هي مسألة حظ واتفاق أم أنها مرتبطة بالتدبير والاجتهاد؟ وهل يتم تحصيلها بشكل فردي أم بشكل جماعي؟ وإلى أي حدٍّ يمكن أن تتحقق سعادة البعض في غياب سعادة الآخرين؟
- مفاصل المعالجة
يرى أرسطو أن كون "السعادة" متعلقة بالكمال والفضيلة القُصوى يجعلها لا تُنال في يوم واحد أو في زمن قصير، تماما كما أن الخُطَّاف الوحيد لا يُنبِئُ عن قُدُوم فصل الربيع. ومن هنا فإن السعادة بحثٌ عن بلوغ الكمال بتحقيق كل الفضائل الممكنة، مما يجعلها تستغرق حياة الإنسان بكاملها.  
غير أن سينيكا (65 ق.م-04 م [Sénéque]) يُلاحِظ أنه إذا كان كل الناس يبحثون عن "السعادة"، فإن الأمور مختلطة بخصوص كيفية السعي إليها. لذا لا بد من مُرشِد ومُعلِّم يُحدِّد كيفية السلوكـ إلى السعادة. إذ بدونه يستسلم المرء لاختلاط الأصوات واضطراب الآراء، مما يُؤدي إلى شدة التيه والضلال. فلا شيء أهم من عدم السلوكـ باتباع القطيع مُسايرةً لما يفعله معظمُ الناس، بل لا شيء أكثر تعاسة من الحياة بالتقليد والمُحاكاة. من هنا يجب العمل على الاستقلال عن عامة الناس باتباع العقل وحده.
ويذهب أبيقور ([Epicure]) إلى أن اللذة تُمثِّل مبدأ الحياة السعيدة وغايتها، إنها الخير الأول والطبيعي الذي يُمكِّننا من إيجاد مبدإ أي اختيار أو رفض، ومن ثم الحكم على ما هو خير. لكن يجب ألا نختار أي لذة كيفما اتفق، بل لا بد من عدم الالتفات إلى اللذات التي يترتب عنها ألم أكبر أو غَـمٌّ، وبالتالي فإننا نُفضِّل كثيرا من الآلام التي يترتب عليها الإحساس باللذة بعد عذاب طويل. إن اللذة التي هي أساس السعادة ليست هي نفس اللذة عند عامة الناس الذين يطلبون إشباع شهواتهم ورغباتهم بكل الطرق، وإنما هي اللذة التي تجعل الجسد لا يتألم وتُمَكِّن من تجنب القلق والاضطراب على نحو يُؤدِّي إلى سكينة النفس وطمأنينتها (أتراكسيا ataraxia,). لذا فإن السعادة لا تتحقق إلا بناء على التفكير العقلي الذي يبحث عن دواعي أي اختيار أو رفض والذي يَنْبِذ الآراء التي تتسبب في الاضطراب والانزعاج على الدوام. 
وبخلاف ذلكـ يذهب أرثور شوﭙـنهاور (1788-1860 [Arthur Schopenhauer]) إلى أن الواقع يُثبِت أن اللذة والإشباع لا نستطيع أن نعرفهما بطريق مباشر، إنهما سرعان ما ينقضيان ويتفلتان، مما يجعل السعادة سلبية ترتبط بالعذاب والألم والحرمان، حيث إن كل إشباع أو استمتاع ليس دائما، بل إنه ليس سوى انقطاع للألم والحرمان. ومن هنا فإن السعادة تقوم في خوض تجربة الألم المأساوي المرتبط بالحياة في هذا العالم باعتباره حقيقة كل نشاط إنساني (خصوصا في الفن والشعر). 
- تركيب واستنتاج
يختلف الناس كثيرا في الكيفية التي يبحثون بها عن السعادة. لذا نجد ألَان (1868-1951 [Alain]) يرى أن "السعادة" لا يمكن الاستدلال على وجودها ولا توقعُها، بل هي شيء يحصل في الآن. وحينما يبدو أنها ستتحقق في المستقبل، يتبين أننا نَملِكها سلفا. لذا، فإن الأمل في السعادة هو السعادة نفسها. فالسعادة، كما يقول الشعراء، لا تتجلى إلا عندما تكون بعيدة في المستقبل، وبمجرد ما نحصل عليها لا تعود شيئا جميلا. من المستحيل، إذن، أن نقتفي آثار السعادة، اللهم إلا على مستوى الكلمات، بل إنها تبدو كنوع من الجزاء الذي يُقَدَّم إلى أولئكـ الذين لم يبحثوا عنها قط.     
3- السعادة والواجب
- تحديد الإطار الإشكالي: ما علاقة السعادة بالواجب؟ هل السعادة واجب فردي أم جماعي؟ وهل هي واجب عملي وأخلاقي أم أنها واجب نظري مجرد؟
- مفاصل المعالجة
يرى إﭙـكتيت (125 ق.م-50 ق.م [Epictète]) أن الأشياء التي نتحكم فيها وتتعلق بقدرتنا هي آراؤنا وحركاتنا ورغباتنا. وما يَجْلُب للناس الاضطراب والقلق ليس هو الأشياء في حد ذاتها، بل إنه آراؤهم عنها. فمثلا ليس الموت في ذاته شرا أو شيئا مُؤلما، وإنما الأمر في تصورنا عن الموت. لذا، فحينما نكون قَلِقين ومُضطربين، يجب علينا ألَّا نَتَّهِم أحدا غير أنفسنا، أي ينبغي أن نُراجع آراءنا، فهي مَكْمَن دائنا. وهكذا يؤكد إﭙـكتيت: «لا تطلب أبدا أن تَحْدُث الأشياء كما ترغب فيها، بل لِتَرْغَبْ في الأشياء كما تَحدُث فعلا، فبهذا ستكون سعيدا دائما.»
ويذهب أصحاب الموقف الصوفي إلى أن "السعادة" تتمثل في القيام بـ"الواجب"، حيث إن طالب السعادة لا طريق أفضل أمامه سوى أن يسلكـ طريق الفضيلة الذي يُؤدي إلى تخلية النفس من الرذائل بواسطة الدخول في تجربة روحية عميقة تقوم على كثرة العبادات والمُجاهدات التي يتمكن بها السالكـ من الترقي في مراتب الكمال إلى أن تتحلى نفسه بصفات الأخلاق الحميدة، مما يجعله يَحْصُل على نوع من الرضى الذي لا يصحبه حُزن ولا ألم ولا غَمٌّ، بل هو السعادة بعينها.    
وعلى مستوى آخر، يرى إيمانويل كنط (Kant) أن السعادة ليست شيئا آخر سوى القيام بالواجب كما يتمثل في الإرادة الخَيِّرة التي تعمل بمقتضى قانون أخلاقي كُلِّي يجعل الإنسان يسلكـ في تصرفاته وفق ما يُوجبه الالتزام بالفضيلة. ومن هنا فإن مجرد كون الإنسان جديرا بالسعادة كذات أخلاقية يُعَدُّ شيئا نافعا في ذاته، حتى لو لم يشتركـ بالفعل في السعادة، لأن التوجه الخالص إلى القيام بالواجب يُعتَبر، في صدوره عن الإرادة الخيرة، خيرا محضا لا قِوَام للسعادة بدونه.
- تركيب واستنتاج
على الرغم من أن معظم الناس يفكرون في "السعادة" ويرغبون فيها، فإنه يُنظَر إليها عموما بأنها ليست موضوعا للطلب، فهي ضربةُ حظٍّ تُصيب فجأة ودون سابق إنذار، وقد تُصيب من لم يفكر أو يرغب فيها قط. غير أن كون "السعادة" ترتبط بما هو إيجابي، سواء كان شعورا بالرضى أو حسن حال عامٍّ، يجعلها ترتبط بـ"الواجب". فمن الواجب على الإنسان أن يسعى نحو "السعادة" بما هي نوع من الخير أو الفضيلة، وذلك إما بالعمل على تفادي ما يتسبب في الشقاء (خصوصا من التصورات السلبية والأخلاق المذمومة) وإما باعتبار القيام بالواجب، من حيث هو خير محض، يُعبِّر عن حقيقة "السعادة".  
- خلاصة عامة للمفهوم
تُعَدُّ "السعادةُ" إشكالا وجوديا وفلسفيا ليس فقط من جهة كونها تختلف حسب تصورات الناس (إشباعٌ للذات البدنية أم إرضاء للمطالب النفسية والوجدانية أم استجابة إلى اللذات العقلية الخالصة)، وإنما أيضا باختلاف كيفيات البحث عنها واعتقاد إمكان حصولها أو استبعادها بالمرة كواقع و، بالتالي، الاكتفاء بجعلها أملا مرتبطا بالخيال وبالمستقبل. وعموما، فإن "السعادة"، حتى بصفتها مشكلةً بدون حل على المستويين النظري والعملي، تبقى مرتبطة بالخير والفضيلة، الأمر الذي يجعلها في صلة بـ"الواجب"، حيث إن الاهتمام بها والسعي إليها هو الذي يجدر بالإنسان ككائن أخلاقي. غير أن كون الفاعلية الإنسانية تتحدد أساسا كفاعلية اجتماعية وتاريخية يقتضي النظر إلى "السعادة" في تعلقها بالتدبير العمومي والمدني للشأن العام، ومن ثم فإن تصورها والبحث عنها لا ينفصلان عن إمكانات التنظيم الاجتماعي والتدبير السياسي، وهي الإمكانات التي يبدو أنها تُمثِّل الطريق الفعلي الذي من دونه لا يُمكن أن تتم مقاربة "السعادة" لا نظريا ولا عمليا في الواقع الإنساني بالشروط التي تحكمه.
 


0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
PageRank Actuel Licence Creative Commons
Licence Creative Commons Attribution - Pas d'Utilisation Commerciale - Partage à l'Identique 2.0 France.