مجزوءة II: المعرفة
المفهوم الثاني: مسألة العلمية في العلوم الإنسانية
* تقديم مفهوم العلوم الإنسانية
ظلت الفلسفة مجالا يحتضن أهم أنواع التفكير الإنساني ويُعنى
بدراسة كل المواضيع المتعلقة بوجود الإنسان في هذا العالم، فكانت تتحدد كعلم
وجودي-طبيعي (نظرية الوجود والطبيعيات) وعلم نفسي-عقلي (رياضيات ومنطق) وعلم عملي
(أخلاق وسياسة). وهكذا بقيت "العلوم" تُسمى "فلسفية" أو
"حِكْمِية" إلى حدود القرن 17، حيث أخذ بعضها (خصوصا الفيزياء والفلكـ) يستقل
عن التأمل الفلسفي باعتماد مناهج جديدة قائمة أساسا على الملاحظة والقياس
والتجريب. وتعزز هذا الاستقلال على امتداد القرنين 18 و19، حيث صارت بفضله العلوم
الطبيعية والرياضية متميزة عن الفلسفة، التي لم تعد تشتغل إلا بنتائج "العلوم
الوضعية" بما هي اهتمام ينحصر في دراسة الوقائع التجربية القابلة للملاحظة
والقياس. ولقد تُوِّج هذا التطور باستقلال مجالات أخرى كانت، حتى عهد قريب، تدخل
ضمن نطاق التفكير الفلسفي، وهي مجالات تهتم بالفعل والسلوكـ الإنسانيين في مختلف
تجلياتهما (اقتصاد، قانون، سياسة، أخلاق، لغة، تاريخ، ثقافة)، فأصبحت تسمى "علوم
الإنسان" (les sciences de l’homme) أو "العلوم الاجتماعية" (les
sciences sociales)، وهي مجموعة
من العلوم (علم النفس، علم الاجتماع، علم اللغة، علم التاريخ، علم القانون، إلخ.) تبلورت
في العقود الأخيرة من القرن 19، وترسخت في بداية القرن 20، وازدهرت وتوسعت على
امتداده. من هنا، تُطرح مسألة "العلوم الإنسانية" بما هي مسألة تُثير
أزمة على مستوى التفكير الفلسفي وعلى مستوى التحوُّل الذي جعل "الإنسان"
موضوعا للمعرفة العلمية التي أثبتت جدارتها بخصوص الأشياء والكائنات الطبيعية
الأخرى.
* الوضعية-المشكلة
إذا كانت "العلوم الطبيعية" (الفيزياء،
الفلكـ، الكيمياء، علم الأحياء، إلخ.) تشتغل بدراسة الظواهر الطبيعية متخذة إياها
كـ"مواضيع" أو "أشياء" يمكن إخضاعها لكل إجراءات الملاحظة
والقياس والتجريب، فإن قيام "العلوم الإنسانية" كمجالات تتناول بالبحث
والدراسة كل "الظواهر الإنسانية" جعلها تعتبر "الإنسان"
موضوعا (أو شيئا) يقبل تطبيق نفس تلكـ الإجراءات التي ثبتت أهميتها المنهجية على
مستوى العلوم الطبيعية. ومن هنا تُطرح جملةٌ من الأسئلة الإشكالية: هل يمكن بالفعل
أن يُدرَس الإنسان (بما هو ذات واعية وحرة) كما تُدرَس الأشياء الطبيعية (التي
تتميز كمواضيع تفتقد صفات القصدية والحرية)؟ وإذا كانت الظواهر الإنسانية واعية
وإرادية بشكل يجعلها خاصة ومتفردة، فكيف يمكن تحويلها إلى مواضيع منتظمة ومُطَّرِدة
على نحو ضروري وحتمي بحيث يمكن تفسيرها بواسطة قوانين سببية؟ وإلى أي حدٍّ يمكن
تطبيق نموذج العلوم "الصلبة" أو "الدقيقة" في مجال الظواهر
الإنسانية؟ ألا تُوجِب خصوصية هذه الظواهر تجاوز التفسير المادي والموضوعي إلى نوع
من التفهم الذاتي الذي ينظر إلى الظاهرة الإنسانية كظاهرة "دَالَّـة"
تتطلب الدخول في عملية التأويل لإدراكـ ما تحمله من مَعانٍ عميقة وقيم سامية؟
1- مشكلة موضعة الظاهرة الإنسانية
* تحديد الإطار الإشكالي: هل يمكن أن يكون الإنسان ذاتا عارفة
وفي نفس الآن موضوعا لفعله المعرفي؟ هل تقوم "العلوم الإنسانية" على
الفصل بين "الذات" و"الموضوع" في عملية المعرفة كما في "العلوم
الطبيعية"؟ كيف تتم الصياغة الموضوعية (l’objectivation) للظاهرة الإنسانية؟ هل تتم دراسة
الظواهر الإنسانية كأشياء على نحو موضوعي أم أن هذه الظواهر تُعَدُّ جزءا لا يتجزأ
من ذات الباحث في "العلوم الإنسانية" بحيث يمتنع بناؤها بشكل موضوعي ومُحَايِِد؟
* مفاصل المعالجة
تَبَنَّت "العلوم الإنسانية"، في بداية
تأسيسها، نموذج العلوم الأخرى (الطبيعية والصُّورية)، حيث اعتبر الرُّوَّاد
الأوائل أن قيام هذه العلوم كمجالات تختص بالدارسة العلمية للظواهر الإنسانية
يجعلها مُضطرةً لاتباع مناهج العلوم التي سبقتها في بحث ظواهر الطبيعة. وهكذا، فإن
كون الإنسان ظاهرة طبيعية مثل الظواهر الأخرى يجعله يقبل أن يُبنى كموضوع للدراسة
العلمية، وذلكـ بإخضاعه لكل الإجراءات التي تُمَكِّن من توضيعه (أو موضعته)، أي
صياغته بشكل موضوعي قابل لأن يُلاحظ كشيء خارجي وأن يتم تقسيمه وقياسه والتجريب
عليه. ونجد أن "إميل دوركايم" (1850-1917 [Emile
Durkheim]) كان من بين أشدّ الداعين إلى
اعتبار مبدإ "التوضيع/الموضعة" (l’objectivation)، حيث إنه يؤكد، في "قواعد
المنهج في علم الاجتماع"، أنه يجب علينا أن نعتبر الظواهر الاجتماعية
في طبيعتها كظواهر مستقلة عن الذوات الواعية التي تُدركها، أي علينا أن ندرسها من
الخارج بصفتها "أشياء" (des choses) منفصلة عن الذات، فهي تُقدِّم نفسها كمعطيات خارجية تماما كما هو
الحال بالنسبة إلى الأشياء. لكن "ماكس ﭭـيبر" (1864-1920 [Max
Weber]) يذهب إلى أن العلوم الاجتماعية
تتميز عن "العلوم الطبيعية"، فهي "علوم ثقافية" (sciences
de culture)، إذ أن موضوعها ليس طبيعيا،
وبالتالي فهو لا يَتَّسِم بالانتظام والاطِّرِاد كما هو الأمر في الظواهر
الطبيعية، مما يقود إلى النظر إلى الظواهر الإنسانية بما هي ظواهر ثقافية
وتاريخية. ومن هنا، فإن موضوع العلوم الاجتماعية ليس هو "الوقائع
الاجتماعية" (بما هي أشياء خاضعة لسببية طبيعية كما كان يظن "دوركايم")،
وإنما هو "الفعل الاجتماعي" بما هو فعل ثقافي مشروط اجتماعيا وثقافيا
بمجموعة من الدوافع والمقاصد التي تستدعي الفهم التأويلي من أجل بلوغ تفسير معقول
لها. ويرى "ﭭـيبر" أن البناء الموضوعي للفعل الاجتماعي لا يتم إلا من
خلال التمييز بين "أحكام القيمة" و"العلاقة بالقيم"، حيث إن
الفعل الاجتماعي مُرتبط بأحكام القيمة، مما يجعله مُتحيِّزا، في حين أن عمل العالِم
الاجتماعي إنما هو "علاقة" موضوعية بـ"قيم" ثقافة أو مجتمع
معين، وهو عمل قائم على "الحِيَاد القيمي" (la
neutralité axiologique)
تجاه الموضوع المدروس، بحيث يجب على الباحث أن يتباعد ما أمكنه الأمر عن كل
الأغراض والهواجس والنزعات التي تُحرِّكـ عادة الفاعلين في المجتمع والتي تجعلهم مُرتهنين
لوجهات نظرهم الخاصة عن أنفسهم وعن غيرهم.
ويذهب "كلود ليفي-ستروس" (1908- ؟ [Claude
Lévi-Strauss]) إلى أن
البحث العلمي يقوم على مُسلَّمة الفصل بين الباحث المُلاحِظ (l’observateur) والموضوع المُلاحَظ (l’objet
observé). وإذا كانت العلوم الاجتماعية
والإنسانية تُريد أن تكون عُلُوما حقيقية، فلا بد لها من المحافظة على ذلك الفصل
بين "الذات" و"الموضوع"، حيث يلعب الباحث (بالنسبة لموضوع
بحثه) دور المُشاهِد أو المتفرج غير المُتحيِّز (spectateur
impartial)، الذي يجب عليه أن يقوم بملاحظة
الناس من دون أن ينخرط في لَعِبهم الخاص ومن دون أن يُشعِرهم بأنه يُلاحظهم، لأنه
لو فعل لَتَسبَّب في إثارة وعيهم بحيث يَقُوم نوع من المُقاومة التي تُحَرِّف أو
تُضلِّل مسار البحث العلمي الذي ينبغي أن يكون موضوعيا لكي يتمكن من الإمساك
ببنيات الواقع.
* تركيب واستنتاج
إن سعي "العلوم الإنسانية" إلى توضيع/موضعة
الظواهر الإنسانية أمرٌ تعترضه جملة من العوائق المرتبطة بصعوبة الفصل بين "ذات
الباحث" و"موضوع بحثه"، حيث يرى "لوسيان غولدمان" (1913-1970
[Lucien Goldmann]) أن المعرفة العلمية تصطدم بمصالح ورغبات الباحث الذي يصعب عليه
أن ينفصل عن المفاهيم القَبْلِيَّة والمقولات المُضمرة واللاواعية، بخلاف ما هو
حاصل لدى الفيزيائي أو الكيميائي. وتؤكد "رُونِي بوﭭـريس" ([Renée
Bouveresse]) أن المعرفة في هذه العلوم لا
تقبل المُماثلة بالمعرفة في العلوم الأخرى في استقلالها وموضوعيتها. ويذهب "مشيل
فوكو" (1926-1984 [Michel Foucault]) إلى أن النزوع الموضوعي لعلوم الإنسان ينتهي بها إلى تذويب
الإنسان بما هو ذات واعية وحرة، مما يشير إلى أن قيام العلوم الإنسانية بتوضيع
الظواهر الإنسانية يُعلن موت الإنسان. غير أن كل هذه الاعتراضات تشير، في الواقع،
إلى نوع من المقاومة التي تدل على عمق الإحراج الذي أوقعت فيه العلوم الإنسانية
والاجتماعية فلسفات "الوعي" أو "الذات" التي أصبحت تُواجِه
خطر اختفاء آخر معاقلها بفعل اكتساح تلكـ العلوم التي تستهدف الإمساك بالضرورة العَمَليّة
التي يخضع لها الفعل الإنساني بِحُكم الشروط المُحدِّدة لواقع الوجود الإنساني في
هذا العالم على نحو يجعله غير قابل للفهم والتفسير إلا بالنسبة إليها.
2- منهجية العلوم الإنسانية بين التفسير والفهم
* تحديد الإطار الإشكالي: هل تقبل الظواهر الإنسانية "التفسير"
كظواهر تَحكُمها علاقات سَبَبِيّة تتسم بالضرورة والحتمية مثل الظواهر الطبيعية أم
أنها بما هي ظواهر واعية وحرة تمتنع على التفسير السببي ولا تقبل سوى "الفهم"
الذي يَنْفُذ إلى الدوافع والمقاصد العميقة للذات الإنسانية؟
* مفاصل المعالجة
في بداية قيام "علوم الإنسان"، أُثير نقاش حول
الطبيعة الحقيقية لهذه العلوم بالمقارنة مع "علوم الطبيعة". ونجد أن
أصحاب اتجاه "التأويليات" (l’herméneutique) و"الظاهريات" (la
phénoménologie) يؤكدون أن
كون "علوم الإنسان" تتناول موضوعا مختلفا تماما عن موضوعات "العلوم
الطبيعية" (موضوع يتجلى فيه "الفكر" و"الوعي" و"الإرادة")،
يجعلها ذات خصوصية متعلقة بـ"المعاني" و"المقاصد" التي تتحكم
في الفعل الإنساني. ولهذا فإن منهج العلوم الإنسانية ينبغي أن يقوم على "الفهم"
أو "التفهم" (compréhension) الذي يعمل على النفاذ بشكل مباشر إلى عمق الظواهر للإمساكـ
بالدوافع والمبررات الداخلية، وذلكـ من خلال قراءة تأويلية. ويختلف منهج "الفهم"
هذا عن المنهج السائد في "العلوم الطبيعية" والقائم على التفسير السببي
الذي يجعل الظواهر محكومة بمجموعة من العلاقات الضرورية التي تقبل التكميم في صورة
قوانين موضوعية ومُطَّرِدة. ويرى "جيل غاستون-غرانجي" (1920-؟ [Gilles-Gaston
Granger ]) أن منهج العلوم الإنسانية يُراوِح
بين "التفسير" الذي يرمي إلى كشف العلاقات الثابتة التي تُوجَد بين
الوقائع باعتبارها أسبابا تُفسِّر كيفية حدوثها واستمرارها وبين "الفهم"
الذي هو استحضار مُباشر للأحداث الإنسانية في علاقتها بالتجربة المعيشة للوعي. غير
أن المعرفة التي تبقى في حدود "الفهم" تُعَدُّ في آن واحد مُفْرِطة ومُقَصِّرة
في مقتضيات التوصيف والتعليل العلميين، إنها لا تكتفي بتحديد العلاقات بواسطة
الملاحظة والقياس، بل تُحيل إلى حركات "الوعي" و"البداهة الداخلية"
بحثا عن العلل الخفية والغايات البعيدة للفعل الإنساني، ومثل هذا الاهتمام يتجاوز
نطاق العلم ويقترب من الأسطورة والسحر اللذين يَدَّعِيَان فهم كل شيء عن ظواهر
العالم. ويذهب "جول مونرو" (1909-1995 [Jules
Monnerot]) إلى أن كون الظواهر الإنسانية
ليست مجرد أشياء يجعل المنهج المُناسب لها يتمثل في "الفهم" الذي هو
معرفة مباشرة تُدركـ الدلالة المعيشة التي تُعطى كتجربة حية ووجدانية، في حين أن
"التفسير" الوضعاني يتوقف عند إدراكـ العلاقات الخارجية بين الظواهر،
مما يجعله يُغْفِل المعنى العميق للحياة البشرية. ومن جهة أخرى، يرى "كارل
ﭙـوﭙـر" (1902-1994 [Karl Popper]) أن "النزعة التاريخية" (l’historicisme) تُعارِض "النزعة الطبيعية"
(le naturalisme) وتقول بأن مناهج "العلوم الطبيعية" لا يمكن تطبيقها
على "العلوم الاجتماعية" لأن هناك فروقا عميقة بين موضوعَيْهما، حيث إن
الظواهر الطبيعية تحكمها قونين حتمية ومُطَّرِدة في الزمان والمكان، في حين أن
الحياة الاجتماعية تفتقد الانتظام والثبات وتتسم بالتعقد والتنوع، مما يؤكد أن
الظواهر الاجتماعية ظواهر تاريخية مرتبطة بالتغير الدائم والتفرد العميق، وذلك على
النحو الذي يُعطيها خصوصية في مقابل الظواهر الطبيعية، ويُوجِبُ بالتالي دراستها
بطريقة مختلفة. غير أن "كارل ﭙـوﭙـر" يذهب إلى أن قيام العلوم الإنسانية
كعلوم حقيقية يقتضي منها أن تنخرط في إطار منطق البحث العلمي الذي يستلزم من كل
نظرية علمية أن تخضع للاختبارت التجربية التي تُمثِّل، هي وحدها، معيار الفصل بين
"العلم" و"الميتافيزيقا".
* تركيب واستنتاج
هناكـ ثلاثة مواقف أساسية بخصوص منهجية العلوم الإنسانية:
فأنصار "الظاهريات" ("ألفرد شوتز") و"التأويليات" ("دِلْتاي"،
"شليرماخر"، "غدامير"، "ريكور") يذهبون إلى أن
العلوم الإنسانية، بما هي علوم روحية أو عقلية، تتميز منهجيا عن العلوم الطبيعية
والصورية وتعتمد على "الفهم" الذي يتطلب إدراكا داخليا للظواهر
الإنسانية يُمَكِّنُ من الإمساكـ بالمعاني القصدية للوعي الإنساني في تفرُّده وسُمُوِّه
؛ في حين يرى الوضعانيون والتجربانيون ("كونت"، "دوركايم") أن
الإنسان كائن طبيعي ينطبق عليه ما ينطبق على كل كائنات وظواهر الطبيعة، مما يُوجِب
دراسته على نحو موضوعي بإقامة العلاقات التي تحكم الظواهر الإنسانية والتي تؤدي
إلى تفسير الضرورة التي يخضع لها الفعل الإنساني ؛ وأما الذين يؤمنون بتميز
الإنسان عن الكائنات الطبيعية باعتباره كائنا ثقافيا ("ﭭيبر" مثلا)،
فيقولون بأن العلوم الإنسانية هي بالأساس علوم اجتماعية وتاريخية متميزة عن العلوم
الطبيعية والصورية ومُطالَبة ببناء نموذج علمي يعتمد على أهم إجراءات الدراسة
الموضوعية للظواهر الإنسانية ويعمل على التغلب على الصعوبات المُمَيِّزة للفعل
الإنساني في ارتباطه بالوعي والإرادة، مما يجعل منهج هذه العلوم قائما في آن واحد
على "الفهم" و"التفسير"، أي أنه يتحدد كمنهج
"تفهمي-تفسيري" (أو تفسيري-تفهمي) يتجاوز التعارض بين "النزعة
الموضوعية" (القائمة على التفسير الموضوعي) و"النزعة الذاتية"
(القائمة على التأويل التفهمي للخصوصية الذاتية).
3- مسألة نموذجية العلوم الإنسانية
* تحديد الإطار الإشكالي: إلى أي حدٍّ يَصْلُح نموذج العلوم
الطبيعية والعلوم الصورية للتطبيق على الظواهر الإنسانية؟ هل يمكن تطبيق نموذج
العلوم الطبيعية في العلوم الإنسانية أم أن تَفَرُّد الظاهرة الإنسانية يقتضي
نموذجا منهجيا وعلميا مُناسِبا لخصوصيتها بشكل يُؤدِّي إلى قيامه كنموذج متميز
ومنفصل عن نموذج العلوم الأخرى؟
* مفاصل المعالجة
بما أن "العلوم الإنسانية" نشأت متأخرة
بالمقارنة مع "العلوم الصورية" و"العلوم الطبيعية"، فإنه صار
يُفترض فيها أن تعتمد على المُكتسبَات المنهجية والنظرية لهذه العلوم في مُقاربة
الظواهر الإنسانية، وذلك باعتبارها ظواهر قابلة للتوضيع وللتنسيق الصوري اللذين يُخْرِجانها
في صورة نماذج تُمكِّن من تحديد الانتظامات الموضوعية والسببية التي يتجلى فيها
الواقع الإنساني. ونجد، بهذا الصدد، أن "جون لَادْرِيير" (1921-2007 [Jean
Ladrière]) يرى أن ثمة إمكانَيْن في دراسة
الظواهر الإنسانية، الأول يقتضي وضع الفاعلين بين قوسين من خلال اعتماد الوسائل
المنهجية التي برهنت على جدارتها وحُجِّيتها في دراسة الظواهر المادية، والثاني
يتمثل في التخلي عن إجراءات العلوم الطبيعية والعمل على إنشاء أدوات تحليل مُناسبة
لطبيعة الموضوع المدروس (الظواهر الإنسانية والاجتماعية). وهذان الإمكانان تعترضهما
كليهما صعوبات كبرى، إذ أن تناول الوقائع الاجتماعية كأشياء يؤدي إلى اطِّراح نظام
الدلالات والمقاصد والقِيَم من مجال المعرفة، في حين أن اختيار طريقة الفهم يترتب
عليه الانحصار في المنظور الذاتي. وهكذا فإن "لَادريير" يؤكد أنه على
الرغم من أن مجال الظواهر الإنسانية يُقدِّم صورة للعلمية مُغايِرة لتلك الموجودة
في مجال الظواهر الفيزيائية، فإن ذلك لا يعني أن نموذج العلمية في علوم الإنسان يجب
أن يكون مُغايِرا تماما لنموذج العلمية في العلوم الطبيعية، بل هو نموذج يفرض
ملاءمة نموذج العلمية القائم في العلوم الطبيعية والصورية مع خصوصية الظواهر
الإنسانية بشكل يُتيح الجمع بين النموذج التفسيري الذي يُمسك بالجانب الموضوعي
فيها والنموذج التأويلي الذي يُمكِّن من استحضار الجانب الذاتي المتعلق بالفاعلية
الإنسانية على نحو يؤدي إلى التكامل بينهما. ومن جهة أخرى، يذهب "إدغار موران"
(1921-؟[Edgar Morin]) إلى أن هناك نوعين من الدراسات على مستوى العلوم الإنسانية
والاجتماعية، دراسات يمكن نَعْتُها بـ"العلمية" ودراسات يمكن وصفها
بأنها "إنشائية"، حيث إن النوع الأول يمثل طليعة تلك العلوم، في حين تُعَدُّ
الدراسات الأخرى مُؤخِّرتَها التي لم تتمكن من التخلُّص من التأمل الفلسفي
والتخييل الأدبي والتحيُّز الأخلاقي. فـ"الدراسات العلمية" تستعير نموذج
الفيزياء في القرن 19، باعتباره ذا نزوع آلي وحتمي من خلال قيامه على تحديد
القوانين السببية والقواعد المنتظمة التي تحكم العلاقات الإنسانية بشكل موضوعي
مستقل عن تدخل الذوات من حيث حي وجود واعٍ وحر. أما "الدراسات الإنشائية"،
فتجعل ذات الباحث (بما هو مُلاحِظ) تتدخل في موضوع البحث باستعمال ضمير المتكلم
وبالمشاركة في الواقع الحي على نحو وِجداني وذاتي. وإذا كانت "الذات"
ككيان ميتافيزيقي ومُتعالٍ تُعَدُّ مفهوما غير مقبول في المعرفة العلمية، فإن "مُوران"
يرى أن تقدُّم المعرفة البيولوجية صار يُعطي للذات أساسا علميا ويسمح بإعادة
إدخالها كمفهوم يُعبِّر عن الإنسان الذي يتركز في قلب عالمه بصفته الكائن الذي يُحيل
إلى ذاته وإلى الخارج.
* تركيب واستنتاج
إن كون "العلوم الإنسانية" ظهرت متأخرة
بالمقارنة مع "العلوم الصورية" و"العلوم الطبيعية" جعلها تجد
أمامها نموذجا للعلمية يتحدد بالدقة والصرامة، الأمر الذي دفع هذه العلوم إلى
الأخذ به في تناولها لظواهر الواقع الإنساني. غير أن الاختلاف النوعي لهذه الظواهر
عن الوقائع الطبيعية يفرض مواجهة صعوبات الاختزال المرتبطة بالنزوع الموضوعي
والتشييئي لتطبيق نموذج العلوم الدقيقة أو الصلبة على مستوى الظواهر الإنسانية،
وبالتالي قامت ضرورة بناء نموذج في العلمية مناسب لها من دون أن يكون، من جهة
كفايته التوصيفية والتفسيرية، أقل علميةً من النموذج السائد في العلوم الأخرى.
4- علم الاجتماع نموذجا (هذا المحور خاص بمسلكـ العلوم الإنسانية)
* تحديد الإطار الإشكالي
- كيف يتحدد علم الاجتماع بصفته نموذجا من العلوم الإنسانية؟ ما هو موضوعه؟
وما هو المنهج المعتمد في دراسته؟ وكيف تتحدد النظريات في علم الاجتماع من حيث درجة
علميتها وكفايتها التوصيفية والتفسيرية؟
* موضوع علم الاجتماع
يقتضي بناء خطاب علمي ما تحديد الموضوع المدروس بتمييزه
عن غيره. وبالنسبة إلى علم الاجتماع، فإن موضوعه يتمثل عموما في "الظواهر
الاجتماعية". لكن "الظواهر الاجتماعية" هي في الواقع كل الظواهر
التي تَحدُث في المجتمع والتي تُشكِّل موضوعا للدراسة بالنسبة لكل العلوم
الإنسانية، حيث إن كل ما هو إنساني يتحدد بصفته اجتماعيا. من هنا، نجد "دوركايم"
يرى أن "الوقائع الاجتماعية" التي تُعتبر موضوعا لعلم الاجتماع تتميز
بعدد من الخصائص الأساسية: الطابع الخارجي (توجد خارج وعي الأفراد)، الطابع
الجماعي (تتجاوز السلوكـ الفردي)، الطابع القَسْري أو الإكراهي (تَحدُث وتفرض
نفسها سواء أراد الأفراد أو لم يريدوا). فالواقعة الاجتماعية هي، أولا، كل طريقة
في الفعل ثابتة وقادرة على ممارسة إكراه خارجي على الفرد، وثانيا هي شيء عام في
المجتمع ومستقل عن المظاهر الفردية.
ونجد أن "ماكس ﭭـيبر" يُحدِّد علم الاجتماع
بكونه «علما يُحاول أن يفهم، بواسطة التأويل، الفعل الاجتماعي وأن يفسر
سببيا سَيْره وآثاره»، حيث إنه يؤكد أن منهج العلم الاجتماعي قائم في آن
واحد على "الفهم" و"التفسير"، فكون الفعل الإنساني مرتبطا
بدلالات وقيم يجعله موضوعا للفهم التأويلي، غير أن مقتضى البحث العلمي يتطلب
إدراكـ العلاقات الضرورية والسببية لتفسير الظواهر بما هي مجموعة من الوقائع
الموضوعية التي تحدث على نحو منتظم وضروري.
وفي أعقاب كل من "دوركايم" و"ﭭـيبر"،
يذهب "ﭙـيير بورديو"
(1930-2002 [Pierre Bourdieu])
إلى أن
علم الاجْتِمَاع يعمل على إظهار البنيات الخفية المتعلقة بمختلف الحقول الاجْتِمَاعية
التي تُكَوِّنُ العالَم الاجْتِمَاعي، وكذا في توضيح الآليات التي تَنْزِعُ إِلَى
ضمان إعادة إنتاج أو تحويل تلكـ البنيات. إذ يتميز العالَم الاجْتِمَاعي بأن البنيات
اللتي تُكَوِّنه توجد مَرَّتَيْنِ: مرة فِي "موضوعية من الطراز الأول" يُقدمها
تَوَزُّع/توزيع الثروات المادية ووسائل امتلاكـ الخيرات والقيم النادرة
على المستوى الاجْتِمَاعي ("أنواع
الرأسمال"
كما يُسميها "بورديو")، ومرة أخرى في "موضوعية من الطراز الثاني"
على شكل صِيَغٍ ذهنية وجسدية تشتغل كقالَب رمزي للنشاطات العملية، أي
لسلوكات الفاعلين الاجْتِمَاعيين، لِأفكارهم، مشاعرهم وأحكامهم. وتُعتبر الوقائع الاجْتِمَاعية،
أيضا، مواضيع للمعرفة في الواقع نفسه، لأن الكائنات الاجْتِمَاعية تُعطي دلالة
للعالم الذي يصنعها. ومن هنا، فإن علم الاجتماع يُعَدُّ في نفس الوقت
"فيزياء اجتماعية" تعمل على تفسير موضوعي للبنيات المادية،
و"ظاهريات اجتماعية" تَبْنِي فهمًا تأويليا للبنيات الذهنية المُحدِّدة
للوعي.
* منهج علم الاجتماع
لقد أكد "أوﮔـست كونت" (1798-1857 [Auguste
Comte]) أن علم الاجتماع يُعدُّ نوعا من
"الفيزياء الاجتماعية" التي تدرس الظواهر الاجتماعية في مستويين: أشكال
وآليات التنظيم الاجتماعي (الستاتيكا الاجتماعية)، ومظاهر التحوّل والتطور في
المجتمع (الديناميكا الاجتماعية). ومن هنا فإن علم الاجتماع يعتمد على منهج وضعي
في التوصيف والتفسير. ويؤكد "دوركايم"، من جهة أخرى، أن المنهج
السيوسيولوجي يقوم على كل الإجراءات التي تَكْفُل بناءً موضوعيا للظواهر
الاجتماعية يسمح بتفسيرها على نحو سببي. ويرى "ماكس ﭭـيبر" أن كون موضوع
علم الاجتماع يتمثل في ظواهر ثقافية أمر يقتضي تناول هذه الظواهر بمنهج يتحدد في
آن واحد كمنهج تفهمي-تفسيري يهتم في آن واحد بإدراك الدوافع الذاتية والأسباب
الموضوعية.
ويرى "ﭙـيير
بورديو" أن هناكـ نوعين من
التناول،
الأول يُعالِج المجتمع
على منوال "الفيزياء الاجتماعية"، أي من حيث هو بنية موضوعية يتم الإمساكـ
بها من الخارج ويُمكن أن تُلاحَظ ارتباطاتُها على المستوى المادي وأن تُقاس وتُرسم
خريطتها. وهذه هي وجهة النظر الموضوعية أو البنيوية (التي قدّم "دوركايم"
نموذجها في كتابه الانتحار والتي مَثَّلتها لسانيات "سوسيـر"
وبنيوية "ﻟﻴﭭﻲ-ستروس" في فرنسا) التي تكمن قوتُها في كونها تُدمِّر
"وهم شفافية العالم الاجْتِمَاعي"، حيث إن اطِّراحها للإدراكات المشتركة
يسمح لها بأن تُظهِر "العلاقات المحدَّدة" التي يدخل فيها الرجال
والنساء بالضرورة "بُغيَة إنتاج وجودهم الاجْتِمَاعي" (حسب تعبير "ماركس").
ومن هنا، يستطيع المُلاحِظ الخارجي، المُسلَّح بأدوات الإحصائيات والتوصيف الأنثربولوجي
والنمذجة الصورية، أن يُعيد بناء "نمط التوزيع غير المكتوب الذي تنتظم
بمقتضاه أفعال الفاعلين الذين يعتقدون أن كل واحد منهم يَرتَجِلُ لَحْنَه الخاص"،
كما يُمكنه أن يُحدِّد الانتظامات الموضوعية التي تخضع لها تلكـ الأفعال. لكن وجهة
النظر الموضوعية هذه تميل (لكونها لا تُحدِّد مبدأ تَوَلُّد تلكـ الانتظامات)
إِلَى الانزلاق من النموذج (الذهني، المجرد) إِلَى الواقع (العيني، الملموس)
وتنتهي، من ثم، إلى تشييء ما تُشيِّده من بنيات، وذلكـ عندما تُعالجها بصفتها
كيانات مستقلة وذات قدرة على التصرف كما لو كانت ذوات فاعلة وتاريخية. وإنّ عجز
"الموضوعانية" (l’objectivisme) عن إدراكـ "الممارسة" إلا بشكل سلبي، أي كمجرد تنفيذ
للنموذج الذي يبنيه المُحلِّل، يجعلها تنتهي إِلَى أن تُسقِط على أذهان الفاعلين
نظرةً "مثاليةً" إِلَى ممارستهم، نظرة لم تكن "الموضوعانية"
تستطيع التوصل إليها إلا إذا أَبْعَدت مُسبقا ومنهجيا التجربة التي يمتلكها الفاعلون
عن ممارستهم. وهكذا، فإن وجهة النظر هذه تُدمِّر جزءًا من الواقع الذي تَدَّعي
إمساكه ضمن الحركة نفسها التي تُمسكـ بالواقع من خلالها. ولكي يتجنب العلم الاجْتِمَاعي
السقوط في هذا الفخ الاختزالي، فإن عليه أن يعترف بأن نظرة الفاعلين وتأويلاتهم
تُعَدُّ مُكَوِّنا ضروريا من مُكَوِّنات الواقع الكلِّي المتعلق بالعالم الاجْتِمَاعي،
حيث إن الأفراد يمتلكون معرفة عملية بالعالم ويستثمرون هذه المعرفة في أنشطتهم العادية.
أما
وجهة النظر الذاتية (التي تُعبِّر عن نفسها في كتاب سارتر الوجود والعدم
والتي تُدافع عنها اليوم الظاهريات ونظرية الاختيار المتعقل)، فتتعلق بالموضوعية
من الطراز الثاني. إنها تُؤكد، عكس الموضوعانية البنيوية، أن الواقع الاجْتِمَاعي
"إنجاز طارئ ومُستمر" من طرف ممثلين اجتماعيين أكفاء يعملون باستمرار
على بناء عالمهم الاجْتِمَاعي من خلال "الممارسات المنظمة في الحياة اليومية".
ويظهر المجتمع، حسب هذه الظاهريات الاجْتِمَاعية، كنتاج للقرارات، للأعمال
والأفعال المعرفية التي يقوم بها أفراد وَاعُون قُدِّم لهم العالم بصفته مألوفا
ودَالًّا بشكل مباشر. ويكمن عطاء "النزعة الذاتية" في كونها تعترف
بالمساهمة التي تُقدِّمها المعرفة العادية والكفاءة العملية في الإنتاج المستمر
للمجتمع ؛ فهي تُعطي مكان الصدارة للفاعل ولـ"نسق القيم المرتضى
اجتماعيا"، ذلكـ النسق الذي يعمل الأفراد من خلاله على إسناد معنى إِلَى
"عالمهم المعيش". لكن ظاهريات الحياة الاجْتِمَاعية هذه يَشُوبها على الأقل
عيبان كبيران: أولهما، أن هذه النظرية الاجْتِمَاعية، حينما تتصور البنيات الاجْتِمَاعية
كنتاج فقط لتجميع خُطط وأفعال التصنيف الفردية، تَحرِم نفسها من تعليل استمرار
تلكـ البنيات وكذا استمرار التشكلات الموضوعية التي تُخَلِّدُها الخُطَط أو تَتحدَّاها
؛ وثانيهما أنها لا تستطيع أن تُُفسِّر لماذا ووفق أي مبدأ يتم عمل إنتاج الواقع
نفسه. فإذا كان من المستحسن التذكير بأن الفاعلين الاجْتِمَاعيين يبنون الواقع الاجْتِمَاعي،
بشكل فردي وبشكل جماعي أيضا، وذلكـ على خلاف ما تقوله بعض النظرات الآلية إِلَى الفعل،
فإنه يجب كذلكـ الانتباه إلى أن أولئكـ الفاعلين لم يبنوا المقولات التي
يستخدمونها في عمل البناء.
ينبغي،
إذًا، للعلم الاجْتِمَاعي أن يتحرر في آن واحد من البنيوية الآلية (التي "تُعطِّل"
الفاعلين) ومن الفردانية الغائية (التي لا تُعطي مكانة للأفراد إلَّا باعتبارهم
نتاجا للتنشيط الثقافي من خلال التنشئة الاجتماعية المُفْرطة). ومن هنا فإن النزعتين
الموضوعية والذاتية (أو النزعتين الآلية والغائية، الضرورة البنيوية والفعل الفردي)
ليست سوى تعارضات زائفة تُساهم في تعتيم الحقيقة الإنسانية للممارسة البشرية، ويجب
تجاوزها بتحويل الفرضيات المُقوِّمة لها إِلَى لحظات في نوع من التحليل الذي يهدف
إِلَى الإمساكـ بواقع العالم الاجْتِمَاعي ذي الطبيعة المزدوجة. ولهذا فإن علم الممارسة
الاجْتِمَاعية (la
praxéologie sociale)، الذي ينتج عن
هذا التحليل، يجمع بين المقاربة البنيوية والمقاربة البنائية. ويعمل
هذا العلم، في حركته الأولى، على إبعاد التمثلات العادية بُغية تشييد البنيات الموضوعية
(فضاء الأوضاع)، أي بناء فضاء تَوَزُّع/توزيع الثروات الناجعة ﭐجْتِمَاعيا التي
تُحَدِّد الإكراهات الخارجية المؤثرة في التفاعلات والتمثلات ؛ ويعمل، في حركته الثانية،
على إعادة إدخال تجربة الفاعلين المباشرة على نحو يُمَكِّن من تفسير مقولات الإدراكـ
والتقييم (الِاستعدادات) التي تصوغ بشكل بنيوي أفعالهم وتمثلاتهم من الداخل
(اتخاذ المواقف/المواقع). ومما يجدر تأكيده أن لحظتي التحليل هاتين ليستا
متكافئتين، على الرغم من كونهما ضروريتين: فالأولوية المنهجية-المعرفية ترجع إِلَى
القطيعة الموضوعية أكثر مما ترجع إِلَى الفهم الذاتي. إذ أن تطبيق المبدأ الأول في
"المنهج الاجْتِمَاعي" لدى "دوركايم" (الذي يتعلق بالِاطِّراح
المنهجي للتصورات المسبقة) يجب أن يأتي قبل تحليل الإدراكـ العملي للعالَم من وجهة
النظر الذاتية. ذلكـ بأن وجهة نظر الفاعلين نفسها تتغير نسقيا تبعا للمركز الذي
يشغلونه في الفضاء الاجْتِمَاعي الموضوعي.
* النظريات في علم الاجتماع
- تتحدد النظرية السوسيولوجية في صلتها بالممارسة
العلمية لدى الباحث الاجتماعي. فما خصائص هذه النظرية؟ وما هي وظائفها وأنواعها؟
يدرس علم الاجتماع (السوسيولوجيا) السلوكات الإنسانية
معتبرا إياها ظواهر قابلة للفهم والتفسير انطلاقا من ملاحظة وتحليل مختلف أشكال العلاقات
التي يُقيمها الناس فيما بينهم في الحياة اليومية. وتتناول النظريات السوسيولوجية
هذه العلاقات من زوايا متعددة وبطرق متباينة. وعموما، هناكـ اتجاه ينظر إلى
المجتمع كمجموعة من البنيات الاجتماعية التي تشتغل بشكل وظيفي (الاتجاه الوظيفي)
أو صراعي (الاتجاه البنيوي والبنيوي-التكويني)، واتجاه يتصوره كمجموعة من
التفاعلات التواصلية بين الأفراد والجماعات في الحياة اليومية (الاتجاه التفاعلي).
وثمة توجهات تجمع بين أكثر من منظور في مقاربة الظواهر الاجتماعية. ويتعلق الأمر
بمجموعة من الاتجاهات التي تتناول بالتوصيف والتحليل مختلف الظواهر الاجتماعية مُحاوِلَةً
بناء نماذج نظرية ذات كفاية علمية في تفسير وفهم الحياة الاجتماعية في عدد من
المجتمعات التي كانت موضوعا للبحث العلمي في مجال علم الاجتماع (السوسيولوجيا) أو
في بعض المجالات القريبة منه (الإثنولوجيا والأنثروبولوجيا).
ويُعد الاتجاه الوظيفي (le
fonctionalisme) أحد أهم
الاتجاهات في النظرية السوسيولوجيا المعاصرة ويرجع بأصوله إلى "دوركايم"،
وهو اتجاه نظري يرى أن المجتمعَ نظامٌ مُعقدٌ تعمل مُكوِّناته لتحقيق الاستقرار
والتضامن الاجتماعيين على شاكلة الكائنات العضوية، حيث إن أجزاء المجتمع تعمل سويا
ووظيفيا كما تعمل أعضاء الجسم الحي لضمان نُمُوِّه واستمراره. ولهذا فإن علم
الاجتماع يتبنى مقاربة قائمة على استقصاء مُكوِّنات ومؤسسات المجتمع وتحديد
اشتغالها الوظيفي. ويُعتبر كل من تالكوت ﭙـارسونز، روبير ميرتون ورادكليف بروان من
أصحاب هذا الاتجاه.
وبخلاف المنظور الوظيفي، الذي يؤكد أهمية النزوع
التكاملي والتضامني في المجتمع، يميل الاتجاه البنيوي والاتجاه البنيوي-التكويني
إلى إبراز أشكال التقاطب والصراع الاجتماعيين بين الطبقات والفئات الاجتماعية وإلى
تأكيد مظاهر السيطرة والتمايُز في المجتمع، وهي أشكال في صيرورة دائمة على أساس
نوع من التناقض الجدلي الذي يَحكُم المجتمع في كل مستوياته على نحو يجعله نسقا من
البنيات الذاتية والموضوعية التي تُمثِّل الواقع الاجتماعي للناس كواقع بنيوي
وتكويني.
ويهتم الاتجاه التفاعلي (l’interactionnisme) بدراسة أشكال التواصل المادي
والرمزي بين أعضاء المجتمع بصفتهم فاعلين اجتماعيين ضمن بنيات اجتماعية دالّة، حيث
إن علم الاجتماع يَدرُس المعاني التي تنطوي عليها أنماط التفاعل الاجتماعي
باعتبارها العامل الأساسي في الفعل الاجتماعي الذي يُحَدِّد تكوُّن واستمرار بنيات
المجتمع. ويُعتبر "ماكس ﭭـيبر" أول من تناول الفعل الاجتماعي من هذا
المنظور، لكن السوسيولوجيا الأمريكية هي التي طَوَّرته وذهبت به بعيدا خصوصا مع مدرسة
"شيكاغو" التي من أبرز ممثليها "إرﭭـين ﮔـوفمان" (1922-1982 [Goffman]).
* تركيب واستنتاج
يُعتبر علم الاجتماع أحد أهم العلوم الإنسانية، حيث إنه
كان منذ بداية قيام هذه العلوم في الطليعة وأسهم منذ نهاية القرن 19 في بلورة عدد
من الاتجاهات النظرية التي عَمِلت على تطوير البحث العلمي في تناول الظواهر
الإنسانية. وإذا كان المجال السيوسيولوجي يعرف تعددا في الاختيارات المنهجية وفي
نماذج المقاربة النظرية، فإن هذه الوضعية لا تدل فقط على هشاشة علم الاجتماع،
وإنما تدل أيضا على حيوية هذا المجال وإصرار المتخصصين فيه على تنويع وسائلهم
المنهجية والنظرية في مُلاحقة الظواهر الاجتماعية رغم كل الصعوبات (الموضوعية
والمنهجية) التي تعترض البحث العلمي في هذا المجال.
* خلاصة عامة لمفهوم العلوم الإنسانية
أدى قيام العلوم الإنسانية في نهاية القرن 19 وبداية
القرن 20 إلى طرح مسألة العلمية المتعلقة بمحاولات بناء موضوع "السلوكـ
الإنساني" من منظور العلوم الطبيعية وبعيدا عن التأمل الفلسفي، وذلكـ من جهة
إمكان إخضاع الظواهر الإنسانية (بما هي ظواهر ثقافية وتاريخية تُعَدُّ تجليا
للجانب الواعي والحر في الإنسان في تميُّزه عن الجانب الطبيعي الذي يشتركـ فيه مع
الكائنات الطبيعية) للدراسة العلمية. وإذا كان المتخصصون في هذه العلوم يُؤكدون أن
الظواهر الإنسانية يُمكن (ويجب) أن تُتَناوَل بمنهجية علمية، فإنهم يختلفون من جهة
مقتضياتها وإجراءاتها. فمنهم من يُنادي بطبيق نموذج العلمية السائد في العلوم الأخرى،
ومنهم من يسعى إلى بلورة نموذج خاص بالعلوم الإنسانية يستفيد من مكتسبات العلوم
الطبيعية والصورية ويحفظ للظاهرة الإنسانية خصوصيتها. وفي جميع الأحوال، فإن
النقاش حول علمية العلوم الإنسانية لا يكتسي طابعا تشكيكيا وسجاليا إلا بالنسبة
للمُشتغلين بالفلسفة الذين يرون أن هذه العلوم تُمثِّل تهديدا حقيقيا لنمط التفكير
الفلسفي الذي يُشكِّل امتيازا للإنسان باعتباره ظاهرة وجودية متفردة تَقُوم على "الوعي"
و"الإرادة" و"الحرية" وتتحدى كل تَوجُّهٍ إلى التقنين
والاختزال كما تَتبنَّاه العلوم، سواء أكانت طبيعية أم إنسانية. ومع ذلك، فإن قيام
"العلوم الإنسانية" قد أدّى إلى تجديد وإغناء التفكير الفلسفي نفسه.
0 التعليقات:
إرسال تعليق