المفهوم الثالث: التاريخ مجزوءة I: الوضع البشري حصري على أحلى باك



المفهوم الثالث: التاريخ

- تقديم مفهوم التاريخ
يَقُودنا تناول مفهومي "الشخص" و"الغير" إلى تحديد "الوجود الإنساني" بما هو "فاعلية" مُحدَّدة من خلال مجموع الشروط التي تتعلق بـ"الوضع البشري" والتي تجعل "الذات"، كسند وأساس للفعل الإنساني، مرتبطةً بعوامل التعدد والتغير كما تتجلى اجتماعيا وتاريخيا، حيث إن "الفرد" كـ"وحدة مستقلة" وكـ"هوية متميزة" لا يتخذ معناه إلا في إطار معين يتحدد كـ"مجتمع" و"ثقافة" و"لغة"، أي بالنسبة إلى مجموع العلاقات التفاعلية والتبادلية التي تُكَوِّن فضاء الوجود الإنساني والتي تُحدِّد فاعلية الإنسان في حدوثها وصيرورتها وتطورها ؛ الأمر الذي يؤدي إلى بروز "البعد الزمني" كـ"امتداد" و"استمرار" يُعطيان للفعل الإنساني حركيته وقوته على نحو يستدعي التساؤل عن مصدر هذا الفعل ومداه وأهميته، وذلكـ في حدود مجموع الشروط التي تحكم وضع الإنسان في هذا العالم.    
- الوضعية-المشكلة
يتحدد "التاريخ" بكونه صيرورة الوجود الإنساني كما تتجسد في مجموع الأحداث والوقائع التي تُكَوِّنُ سيرورة الحياة البشرية في امتدادها وتغيُّرها عبر الزمن. فـ"التاريخ" يُمثِّل الوجود الإنساني في حُدوثه واستمراره. وكون "التاريخ" يتحدد بهذه الصورة يستدعي التساؤل عن الكيفية التي يمكن أن يُعرَف بها الماضي الإنساني: فهل "المعرفة التاريخية" معرفة علمية تُعِيد وتستعيد الأحداث في واقعها الحقيقي أم أنها معرفة إنشائية وفنية قائمة على مُمكنات الخيال وتأثرات الوجدان؟ وهل تتم الصيرورة التاريخية على شكل مجموعة من التطورات والتراكمات التي تخضع لمنطق معين يُمَكِّن من الحديث عن التقدم في التاريخ الإنساني أم أن أحداث التاريخ تَتَتالى وتتسلسل على نحو اعتباطي وعشوائي؟ وهل "التاريخ" جملة من البنيات الموضوعية التي تُوجد وتستمر خارج إرادة ووعي الناس أم أنه نتاج للفاعلية الإنسانية بحيث يمكن الحديث عن دور الإنسان في التاريخ وعن أهمية الأبطال والزعماء والعباقرة بصفتهم صُنَّاع التاريخ؟   
1- المعرفة التاريخية
- تحديد الإطار الإشكالي: ما طبيعة المعرفة التاريخية؟ هل هي معرفة موضوعية وعلمية أم أنها مجرد معرفة إنشائية وتخيُّلية على شاكلة المعرفة التي يُقدِّمها الأدب والفن؟ هل يُمكن بناء معرفة حقيقية بأحداث الماضي الإنساني في خصوصيتها الزمنية وحضورها البشري؟
- مفاصل المعالجة
يُنظر إلى "التاريخ" في آن واحد باعتباره، أولا، "واقع الحياة الإنسانية كما تتجلى عبر التطور الزمني" و، ثانيا، "مختلف الأعمال التي تستهدف عرض وتحليل الأحداث والوقائع التي تُكَوِّن الماضي الإنساني". وإذا كان المعنى الأول هو أساس المعنى الثاني، إذ وجود الفاعلية الإنسانية كواقع حي هو الذي يتجلى أيضا كفاعلية خاصة مرتبطة بإعادة بناء أو استعادة مُجْرَيات ما مضى من الفعل الإنساني. من هنا، فإن شمول "التاريخ" للوجود الإنساني في هذا العالم لا يعني وجود اهتمام كلي بالتاريخ عند أي إنسان ؛ الأمر الذي يجعل الناس يختلفون في نظرهم إلى التاريخ بما هو معرفة، وتختلف -من ثم- كيفيات تعاملهم مع المعرفة التاريخية إما باعتبارها جزءا من التجربة الذاتية كحكايات تندرج ضمن السيرورة العادية للحياة الإنسانية وإما كأعمال خاصة تتجه نحو استعادة الماضي في قالب قصصي كما في الأدب والفن أو بأسلوب منهجي وتقنيات متميزة كما في الدراسات والبحوث العلمية. ونجد أن "عبد الرحمن بن خلدون" (1332-1406) يُعَدُّ، في أواخر العصر الوسيط، أحد كبار المفكرين الذين تناولوا الكيفية التي يُمكن بها للبحث في التاريخ أن يصير علما متميزا عن الاهتمام العادي والعام (التاريخ كطرائف ونوادر) أو التناول غير المتخصص (التاريخ كأدب قصصي وحكائي يفتقر إلى التحقيق والتمحيص المنهجيين). فـ"التاريخ" فن من الفنون التي تتدولها الأمم وتهتم بها الأجيال ويجتهد الناس في طلبها. وهو في ظاهره ليس سوى أخبار عما مضى من الأيام تُؤَدِّي لنا شأن الخليقة في أحوالها العمرانية ؛ أما في باطنه، فهو نظر قائم على التحقيق يبحث في تعليل الحوادث للتمكن من بلوغ معرفة علمية بكيفية وقوعها في علاقتها بأسبابها العميقة. وبهذه الصفة، فهو "علم" يتناول أحوال الماضي من العمران البشري، مما يجعله يحتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة، فضلا عن جودة التفكير وفق منهج يقوم على التثبُّت والتحقيق. ذلكـ بأن كونه يعتمد على الأخبار يجعله مُضطرا إلى تجاوز مجرد النقل، ومن ثم تحكيم أصول العادة وقواعد السياسة المرتبطة بطبيعة العمران وأحوال الاجتماع الإنساني. وهكذا، فإن "ابن خلدون" يرى أن "التاريخ" يتعلق بـ"العمران البشري في الأرض" الذي هو "أحوال الاجتماع الإنساني"، وبالتالي فإن قيام "التاريخ" كمعرفة علمية يتطلب بناءه على "علم العمران الإنساني" الذي هو "علم الاجتماع" كعلم يدرس وقائع العمران لاستخلاص أصوله وقواعده التي بدونها لا يمكن إدراك طبيعة الحوادث التاريخية.        
ومن ثم، فإنه ينبغي التمييز بين "التاريخ" كمعرفة عادية و"التاريخ" كمعرفة علمية. وهذا ما يؤكده "هنري-إريني مارو" (1904-1977[Henri-Irénée Marrou]) الذي يذهب إلى أن "التاريخ"، بما هو معرفة بالماضي الإنساني، ليس مجرد سرد لأحداث الماضي كما في الحكايات الشعبية أو في الأعمال الأدبية التي تُعيد كتابة تلك الأحداث بطريقة إنشائية، وإنما هو "عمل علمي" يتوخى بناء معرفة حقيقية بأحداث الماضي وفق منهج مُنظَّم وصارم يُميِّز، من جهة، بين الوسائل (طرق البحث وتقنيات الاكتشاف) والغايات (نتائج البحث كمعرفة صحيحة وحقيقية بالواقع) ويفصل، من جهة أخرى، بين التعامل الواقعي مع الأحداث (المعالجة العلمية) والتعامل الفني والتخييلي معها (المعالجة الأسطورية والأدبية). ولهذا، فإن "التاريخ" يتحدد في ارتباطه بـ"الحقيقة" التي يعمل المؤرخ على بنائها بشكل منهجي يُمَكِّنُ من إدراكـ واقعي لأحداث الماضي.       
- تركيب واستنتاج
يتعلق إشكال "المعرفة التاريخية" بكيفيات استعادة أو استحضار أحداث الماضي الإنساني ومدى إمكان بناء معرفة علمية بها. وهكذا، فإذا كان المشتغلون بالتاريخ يميلون إلى اعتباره علما يهتم بالبحث المنهجي والمنظم في أحداث ووقائع الماضي من أجل الانتهاء بصددها إلى معرفة حقيقية وصحيحة، فإن فلاسفة ونُقَّاد المعرفة يؤكدون أن التاريخ -بما هو اشتغال بأحداث غائبة تستعصي على الملاحظة المباشرة- ليس سوى نوع من "العمل الخيالي" الذي يشتركـ مع أشكال الأدب والفن. غير أنه، مع ذلك، يجب تمييز ممارسة المؤرخ عن غيرها من الممارسات (الأديب، الفنان، إلخ.)، فهي -كممارسة علمية- تقوم على الحِيَاد القِيمِيّ والمنهج الصُّوري اللذين يضمنان لها بناء حقيقة موضوعية ذات طابع كلي، وذلك على الرغم من اشتراكها مع الممارسات الأخرى في بعض الوسائل، الأمر الذي يجعل "التاريخ" موضوعا لنوع من الدراسة العلمية كما يُمارسها المؤرخون بأدواتهم الخاصة التي تَكْفُل لهم بناء حقيقة الواقع التاريخي.
2- التاريخ وفكرة التقدم
- تحديد الإطار الإشكالي: كيف تتم الحركة التاريخية؟ هل على صورة مجموعة من التحولات المتدرجة والتراكمات التقدمية أم أنها مجموعة من التطورات المتقطعة وغير الخَطِّية؟ ما معنى "التقدم" في التاريخ الإنساني؟ هل هو تطور خطي، مستمر وضروري أم أنه سيرورة تراكمية تَتَّسم بالانقطاع والانحراف والتعرج؟


- مفاصل المعالجة
يبدو "التاريخ" كجملة من الأحداث المتعاقبة التي تشكل مجموع آثار الفاعلية الإنسانية منذ أن وُجِد البشر في هذا العالم. ومن هنا يُطرح إشكال الكيفية التي تتعاقب بها أحداث التاريخ الإنساني: هل تتعاقب في حدوث عشوائي يجعل بعضها يتلو بعضا من دون أن تكون بينها علاقات سَبَبِية تُحدِّد تسلسلها على نحو منطقي يسمح بالقول بأن هناك نوعا من "التقدم" في سيرورة التطورات التاريخية التي تخضع لأسباب وقوانين تجب معرفتها على نحو علمي يُمكِّن من الإسهام في تطوير وتحسين الوجود الإنساني كفاعلية لها غايات محددة؟ ونجد، بهذا الخصوص، أن "إدوارد هاليت كار" (1892-1982[Edward Hallett Carr]) يعمل على إزالة الخلط بين مفهومي "التقدم" و"التطور" لكي يُبَيِّن طبيعة التحولات التاريخية. فإذا كان مفكرو التنوير (ق 18) يعتقدون في "فكرة التقدم" باعتبار أن الإنسان كائن طبيعي سعى عبر مسيرته التاريخية لتحقيق غايات طبيعية تتمثل في "العقل" و"الحرية" و"الازدهار"، فإن "هيغل" واجه التنويريين بالقول إن التاريخ، بخلاف الطبيعة، هو وحده الذي يشهد تَجلِّي "العقل" أو "الروح" في حركته التقدمية من خلال الجدل التاريخي للوعي الإنساني. وتأتي الداروينية بعد ذلكـ لتؤكد أن "الطبيعة" و"التاريخ" يتحددان كليهما كـ"تقدم". لكن "إدوارد كار" يرى أن مثل ذلك التصور يؤدي إلى الخلط بين الوراثة البيولوجية، التي هي مصدر "التطور"، والاكتساب الاجتماعي، الذي هو مصدر "التقدم" في التاريخ. ومن هنا، فلا داعي لتصور "التقدم" كحركة لها بداية ونهاية محدَّدتين. ذلك أن القول بأن التاريخ له طابع أُخْروي يُعدُّ افتراضا دينيا يُلائم "علم اللاهوت". ولا سبيل للاحتفاظ بفكرة "التقدم" في التاريخ إلا بالنظر إليه كعملية تُودِعُ فيها العصورُ المتعاقبة، من جيل إلى جيل، مضمونَها المُميِّز كمجموعة من المطالب والأحوال. لذا، ليس من المعقول أن يُعتقَد أن "التقدم" يسير باستمرار في اتجاهٍ مستقيم من دون انقطاع أو انحراف أو توقف أو ارتداد، أي أن "التقدم" في التاريخ ليس استمرارا في الزمان والمكان.
وفي نفس السياق، يذهب "كلود ليفي-ستروس" (1908-2009 [Claude Lévi-Strauss]) إلى أن أنواع "التقدم" التي حققتها الإنسانية منذ بدايتها واضحة وبَيِّنة بقدر يجعل كل محاولة لمناقشتها تَؤُول إلى مجرد تمرين بلاغي. ورغم ذلك، فإنه ليس من السهل -كما يظن بعضهم- أن تُرتَّب أنواع التقدم تلك في سلسلة منتظمة ومستمرة. فأنماط التقدم ليست عصورا متتابعة ومُطَّردة، بل يُعَدُّ بعضها عصورا متزامنة ومتعايشة، إذ حينما تتغلب تقنية ما على أخرى، فإن هذا التطور لا يكون نتيجة تقدم تقني يَبْرُز تلقائيا من مرحلة سابقة، وإنما كمحاولة للنقل بين متقدم ومتأخر متعاصرين. وهكذا، فإنه من المُسلَّم الآن أن العصر الحجري الأدنى والأوسط والأعلى ثلاثة أشكال وُجِدت متزامنة، بحيث لم تكن عبارة عن ثلاثة أطوار من التقدم في اتجاه واحد، وإنما كانت وُجُوهًا متنوعة من واقع غير سُكُوني عَرَف تغيرات وتحولات معقدة. وكل هذا لا يستهدف نفي واقع التقدم في التاريخ الإنساني، بل يستدعي تصوره بقدر أكبر من الحَذَر. ومن هنا، فإن "التقدم" لا يتم على نحو ضروري ومستمر، وإنما يحدث على شكل "قفزات" أو "طفرات" بالمعنى البيولوجي، وهي "قفزات" لا تتمثل في السير دوما إلى أبعد حَدٍّ وفي نفس الاتجاه، حيث إنها تقترن بتغيرات في الاتجاه على شاكلة "الفارس" في الشطرنج الذي يملك أن يتقدم بأكثر من حركة في أكثر من اتجاه. فالتقدم في التاريخ الإنساني ليس سلسلة منتظمة ومستمرة على شكل الصعود المتدرج في السُّلَّم، بل إنه أشبه باللعب المتعرج والمتناثر في أكثر من ناحية، بحيث إنه لا يُمَثِّل ترتيبا حسابيا أو تراكما نوعيا إلا من حين لآخر.               
- تركيب واستنتاج
غالبا ما يُتصَّور "التقدم" كحركة متسلسلة ومنتظمة كما لو كان "التاريخ" الإنساني صيرورة منطقية يحدث فيها الانتقال على نحو متدرج في اتجاه مُحدَّد يُشكِّل غاية الفاعلية الإنسانية التي تُعَدُّ فاعلية محكومة بالتطور الضروري نحو مزيد من التعقُّل والتحرر والازدهار. لكن "التقدم" بهذا المعنى ليس سوى "طُوبَى" إنسانية لا صلة لها بالواقع التاريخي الذي يعرف جملة من التطورات والتحولات غير الخطية وغير المنطقية، المتخلَّلة بكثير من الانقطاعات والانحرافات والتعرُّجات.
3- دور الإنسان في التاريخ
- تحديد الإطار الإشكالي: ما هو الدور الذي يلعبه الإنسان ككائن فاعل في التاريخ؟ هل التاريخ من صنع الإنسان كفاعل اجتماعي وتاريخي أم أن الإنسان لا يفعل في التاريخ إلا بالقدر الذي يُعَدُّ هو نفسه نِتَاجًا لتاريخه الخاص في ارتباطه بالتاريخ العام للإنسانية؟
- مفاصل المعالجة
يتحدد "التاريخ" في ارتباطه بـ"الفعل الإنساني". غير أن نوع هذا الارتباط القائم بين "الصيرورة التاريخية" و"الفاعلية الإنسانية" يُثير مشكلة التحديد السببي ومدى تعلُّقها بـ"التاريخ" كواقع موضوعي يتجاوز الإنسان كـ"ذات فردية". ذلك بأنه من الشائع أن الإنسان يُعَدُّ ذاتًا فاعلة وإرادةً حرة، بحيث يتمثل بصفته صانع التاريخ. لكن، لو كان الإنسان يتحكم في السيرورة التاريخية لَأمكنه أن يُوجِّه الأحداث بالشكل الذي يُحقِّق أهدافه ويُخلِّصه من اللامتوقع والكوارث الدورية. من هنا، نجد أن "التاريخ" يُمثِّل في نظر كثير من الفلاسفة (هيغل، وخصوصا ماركس) عملية اغتراب واستلاب تكشف عن وجود نوع من الحتمية التي تجعل الإنسان أمام صيرورة تاريخية بدون ذات فاعلة، أي أن "التاريخ" مجموعة من العلاقات الموضوعية (علاقات الإنتاج) التي تتجسد كـ"بنيات" تتجاوز "الذوات" و"الإرادات" بحيث تكون "أنماط الإنتاج" في موضوعيتها وماديتها هي التي تخلُق الأدوار الإنسانية وبها تُفسَّر سلوكات الناس. غير أن "لوسيان غولدمان" (1913-1970 [Lucien Goldmann]) يُواجه التصور البنيوي للتاريخ (كما مَثَّله "ألتوسير") بالتساؤل عَمَّن يخلُق البنيات الاجتماعية والتاريخية التي تُعتبر مُحدِّدة للفاعلية الإنسانية (القول بأن البنيات هي التي تخلق الأحداث التاريخية). فمجموع البنيات الاجتماعية والتاريخية (اللغة، المؤسسات، أشكال الإنتاج المادي والرمزي) ليست ذوات فاعلة ومُنتِجة، بل إن الناس المأخوذين في مجموعة من العلاقات المُتَبنينة (rapports structurés)، كوعي وسلوك مُتَبَنْيِِنَيْن أيضا، هم الذين يُنتجون الأحداث التاريخية (هم الذين يخلقون مثلا اللغة داخل ممارسة متبنينة). لذا، فإن البنيات، في مختلف صورها، ليست سوى مظهر للعلاقات الإنسانية على نحو لا يجعلها تحتل مكان "الذات"، وإنما تبقى فقط تجلِّيا من تجليات "الذات" كسلوك وفكر وحياة ملموسة في الواقع الفعلي.
وتأكيدا لنفس التوجه، يرى "جون-ﭙول سارتر" (1905-1980) أن الإنسان يكون، حتى في أثناء استغلاله واستلابه، ثمرة لنِتَاجه الخاص. فالإنسان فاعل تاريخي وليس مجرد نِتاج لشروط خارجية ومُتعالية. إنه يُنْتِج تاريخه فيُنتِج، من ثم، نفسه ضمن حركة "الممارسة" الإنسانية (praxis) كحركة جدلية وتناقضية. ذلك بأن الناس يصنعون تاريخهم على أساس الشروط الواقعية والمادية السابقة، مما يجعلهم هم الذين يصنعون تاريخهم. والقول بخلاف هذا يؤدي إلى جعل الناس مجرد وَسَاطات حاملة لقُوًى غير إنسانية تُنَظِّم المجتمع وتُحدِّده من خارج وبعيدا عن إرادتهم ووعيهم. فحركة "الممارسة الإنسانية" تتجاوز الشروط الواقعية في الوقت نفسه الذي تحتفظ بها، الأمر الذي يجعل الإنسان الصانع الفعلي للتاريخ ؛ وحتى حينما يُفلِت التاريخ من قبضة أحدنا، فإن السبب هو أن غيره هو أيضا يصنعه. وبالتالي، فإن الإنسان يملك أن يصير ذاتا فاعلة في التاريخ، وذلك في المدى الذي يُمكنه أن يَعِي ذاته وقيمته كفاعل من خلال تَعرُّفه لوجوده الواقعي في التاريخ.               
- تركيب واستنتاج
يُعبِّر "التاريخ" عن فاعلية الإنسان كما تتجلى من خلال مجموع الأحداث والوقائع التي تُشكِّل الوجود الإنساني في هذا العالم. ومن حيث إن "التاريخ" يحدث على نحو موضوعي وضروري يمكن القول بأنه صيرورة متعالية على الإرادات الفردية، لكن "التاريخ" يُعَدُّ نِتاجا للفاعلية الإنسانية كفاعلية مشروطة تاريخيا واجتماعيا بشكل يجعل صناعة التاريخ تبقى فعلًا إنسانيا حتى لو كان الناس يصنعون تاريخهم، في معظم الأحيان، دون إرادتهم ووعيهم بفعل نسيان أو تجاهل "التاريخ" نفسه باعتباره أحد المُحدِّدات الأساسية للفاعلية الإنسانية.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
PageRank Actuel Licence Creative Commons
Licence Creative Commons Attribution - Pas d'Utilisation Commerciale - Partage à l'Identique 2.0 France.