المفهوم الثالث: الحق والعدل مجزوءة III: السياسة حصري على أحلى باك




مجزوءة III: السياسة
 
المفهوم الثالث: الحق والعدل

* تقديم مفهوم الحق والعدل
عرفت المجتمعات الإنسانية منذ القِدَم مشكلةَ توزيع الموارد والثروات التي تتميز طبيعيا بالندرة. فالواقع الإنساني موضوعٌ لنزاعٍ حَادٍّ يدور حول كيفية تقسيم ما يتم إنتاجه ومُراكمته من خيرات على مستوى مجتمع ما أو حتى على مستوى العالم كله، تقسيم يُمَكِّن من حفظ "النصيب الواجب" لكل طرف على نحو يسمح بالحديث عن نوع من "الحق" الذي ليس مجرد إقرار لواقع التفاوت على أساس القوة أو الامتياز، بل بالاستناد إلى قيم ومعايير تتجاوز ما هو اعتباطي وتفرض نفسها كمبادئ وأصول لإقامة "العدل" الذي يجعل كل طرف يحظى بما يستحق على الوجه الذي يليق بكرامة الإنسان بما هو كائن عاقل له القدرة على بلورة سيرورة للتحكم في فاعليته على نحو قاصد وناجع.      
* الوضعية-المشكلة
يرتبط "الحق" و"العدل" بِنَسقِ القيم والمعايير الذي يضبط العلاقات التفاعلية في مجتمع ما خلال فترة محددة، من حيث إنها علاقات قائمة على النزاع والتنافس بخصوص توزيع الخيرات التي تكون مَحَطَّ اهتمام أعضاء المجتمع. فكيف يتحدد "الحق"؟ هل يقوم على أساس ما هو طبيعي في الوجود الإنساني أم على أساس ما هو وضعي فيه؟ وما العلاقة القائمة بين "الحق" و"العدل"؟ أيهما يُقَوِّم الآخر؟ هل "الحق" هو الذي يُمثِّلُ أساس "العدل" أم العكس؟ وكيف يتحدد "العدل" في واقع الحياة؟ هل هو "مساواة" قائمة على التوزيع العام والمجرد أم أنه "إنصاف" يأخذ بما تقتضيه كل حالة فردية من معاملة خاصة؟     
1- الحق بين الطبيعي والوضعي
* تحديد الإطار الإشكالي: ما هو الأساس الذي يقوم عليه "الحق"؟ هل هو طبيعي يتمثل في ما هو مشتركـ وثابت بين الناس أم أنه وضعي يرتبط بما هو متعدد ومتغير في الحياة الإنسانية؟ هل "الحق" ثابت ومطلق أم أنه متغير ونسبي؟
* مفاصل المعالجة
يرى فلاسفة "الحق الطبيعي" (هوبز، إسـﭙـينوزا، لوكـ، روسو) أن الإنسان يتمتع، بمقتضى فرضية "حالة الطبيعة"، بـ"حق طبيعي" (droit naturel) يُساوِي "الحرية المطلقة" التي تجعل الناس أحرارا ومتساوين بالطبيعة. ويتحدد "الحق الطبيعي" بكونه واحدا، ثابتا ومطلقا ؛ إنه الحق الذي يجعل بإمكان كل واحد أن يُوجَد ويَسلُكـ بحسب ما تقتضيه طبيعته. و"الحق"، بهذا المعنى، هو الذي يُوجَد في أساس إقامة "العقد الاجتماعي" الذي يبني "المجتمع المدني" كمجال لحفظ وحماية حرية وملكية الأشخاص بما هم أعضاء مُتساوُون بفضل القانون الذي يُجسِّدُ إرادة المتعاقدين.  
غير أن "الوضعانية القانونية" (le positivisme juridique) في استنادها إلى الواقع الفعلي تؤكد، خصوصا مع هانس كلسن (1881-1973 [Hans Kelsen])، أن ما يُسمى "الحق الطبيعي" يُعتبر مجرد وهم، لأنه يَفترض وجودَ طبيعة جوهرية للإنسان تتميز بالوحدة والثبات وتتعالى على الواقع التاريخي في تعدده وتغيره، في حين أن كل ما هو قائم في الحياة الفعلية للناس يتمثل في "الحق الوضعي" (le droit positif) الذي هو مجموعة من القواعد القانونية والقيم الأخلاقية التي يكون معمولا بها في مجتمع ما خلال فترة معينة. فـ"الحق الوضعي" أساس كل الحقوق التي يتمتع بها الناس، وهو خاضع في كل مجتمع لميزان القُوَى الذي يؤدي إلى تعديله أو تجاوزه كلما دعت الحاجة إلى ذلكـ، ويتجلى على شكل مجموعة من المعايير التي تتراتب بشكل تنازلي انطلاقا من أسمى معيار (الدستور) إلى أدنى معيار (رخصة، عقد، شهادة)، حيث إن كل معيار لا تَثْبُت صلاحيته إلا بالنسبة للمعايير التي تُوجَد فوقه.   
وفيما وراء التعارض بين أنصار "الحق الطبيعي" وأنصار "الحق الوضعي"، فإن هناكـ اتجاها نحو الجمع بين كل منهما كما يتجسد ذلكـ في إعلانات حقوق الإنسان (إعلان الثورة الأمريكية 1786، إعلان حقوق الإنسان والمواطن بُعَيْد الثورة الفرنسية 1792، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة 1948)، حيث تم تأكيد "الحقوق الطبيعية والمقدسة" التي يتساوى فيها الناس بِغَضِّ النظر عن عرقهم أو جنسهم أو دينهم أو لغتهم أو مستواهم الاجتماعي. وهكذا، فـ"الحق الوضعي" لا يُلْغِي "الحق الطبيعي" وإنما يعمل على تنظيمه وتقنينه على نحو يجعله مُمْكنا بالنسبة إلى كل إنسان.  
* تركيب واستنتاج
يقوم "الحق الطبيعي" على ما هو طبيعي في الإنسان، باعتباره أساسا مشتركا بين كل الناس، وذلكـ بمقتضى ما أودعته الطبيعة في ذات الإنسان من كرامة تجعل الإنسان بفطرته كائنا حرا وفاعلا. لكن كون "الحق الطبيعي" يستـند إلى طبيعة الإنسان (كمعطى جوهري ومطلق يتجاوز كل تحديد اجتماعي أو تاريخي) يقود إلى النظر في "الحق الوضعي" كما يتجسد في الواقع الفعلي، حيث لا يتم تعيين الحقوق إلا انطلاقا منه، الأمر الذي يُؤكِّد أن "الحق" لا يتحدد معناه إلا من خلال شروط اجتماعية وتاريخية متعددة ومتغيرة حسب المجتمعات والعصور. لكن الكونية التي توجد في "الحق الطبيعي" هي التي تُؤسِّسُ إمكان التمييز بين حق وآخر، ومن ثم فهي تتحدد كمعيار كلي وعام للحكم على "الحق الوضعي".       
2- العدل كأساس للحق
 * تحديد الإطار الإشكالي: ما علاقة "الحق" بـ"العدل"؟ أيهما يؤسس الآخر؟ هل "العدل" كواقع قائم في مؤسسات وقوانين هو أساس "الحق" كمَثَل أعلى أم أن "الحق" في معياريته وكليته هو الذي يُمثِّل أساس "العدل" في جزئيته ونسبيته؟


* مفاصل المعالجة
يرى أرسطو (384-322 ق.م [Aristote]) أن "العدل" في تضاده مع "الظلم" يتميز بكونه "التصرف في حدود القانون على النحو الذي يؤدي إلى حفظ حقوق الغير"، مما يجعل "الظلم" يتحدد كسلوكـ يُنافي القانون والمساواة، حيث إن الظالم يتصرف ضد القوانين. ومن هنا، فإن كل الأفعال المُوافِقة للقانون تُعَدُّ أفعالا عادلة. فالقوانين تضبط الأفعال بهدف حماية المصلحة العامة ومصلحة أولياء الأمور طبق ما تُوجبه الفضيلة. وهكذا فـ«الفعل العادل هو الفعل القادر، كليا أو جزئيا، على إيجاد أو حماية سعادة الجماعة السياسية» ؛ الأمر الذي يجعل "العدل" فضيلة كاملة، بل أهم الفضائل قاطبة، من حيث إنه أساس ضمان "الحق"، إنه أروع من كل شيء آخر.         
ويذهب أَلَان (1868-1951 [Alain]) إلى أن "الحق" (le droit) يتميز بالأساس عن "الأمر الواقع" (le fait)، فلا يكون "الحق" إلا على أساس الاعتراف من طرف سلطة حاكمة تُعلِن على الملإ أنه كذلكـ، فلا يكفي قيام وضع أو واقع للقول بأنه حق (مثلا امتلاكـ ساعة واستعمالها أو السكن في منزل مدة طويلة)، بل لا بد من حَكَمٍ عُمومي يُقِرُّ ويُعلن ذلكـ "الأمر القائم". لذا فإن "الحق" يتحدد وفق نسق من الأشكال والاتفاقات المتعلقة بالمُعامَلات بين الناس على أساس "العدل".
وفي نفس السياق، يؤكد فريدريكـ هايكـ (1889-1992 [Friedrich Hayek]) أن العدالة الاجتماعية أو التوزيعية لا يكون لها معنى إلا على أساس الشرعية القانونية، وليس معنى هذا أن كل قواعد السلوكـ العادل القائمة في المجتمعات تُعَدُّ قواعد قانونية ولا أن كل قانون يستند بالضرورة إلى قواعد السلوكـ العادل، وإنما هو أن القانون المرتكز إلى قواعد العدالة يكون له مقام استثنائي، بحيث إنه هو وحده الذي يُلْزِم المواطنين ويفرض نفسه على الجميع في مجتمع حر.
لكن المفكر الروماني شيشرون (163-43 ق.م [Cicéron]) يرى أنه ليس من المعقول في شيء اعتبار العدالة متمثلة في كل ما هو مُنَظَّم بواسطة المؤسسات والقوانين كما هو الأمر عند معظم الشعوب، لأن هذا يقود إلى قبول القوانين والمؤسسات المرتبطة بالطغاة والغزاة. ولهذا فإن أساس العدالة ليس شيئا آخر غير "الحق" الذي يقوم على "الطبيعة" والذي يُشَرِّع تبعا لمقتضيات "العقل" القويم، بحيث يمثل القانون أو المعيار الوحيد الذي يُمَكِّن من التمييز بين الخير والشر، وبين العدل والظلم، في حين أن جعل المصلحة أساس "العدل" يُؤدي إلى تَغَيُّر الامتثال للقوانين بتغير المصالح. وهكذا، فـ«ما لم يَقُم الحقُّ على الطبيعة، فإن كل الفضائل تتلاشى». 
3- العدل بين المساواة والإنصاف
* تحديد الإطار الإشكالي: كيف يتحدد "العدل" في الواقع؟ هل هو "مساواة" قائمة على التوزيع العام والمجرد أم أنه "إنصاف" يأخذ بما تقتضيه كل حالة فردية من معاملة خاصة؟    
* مفاصل المعالجة
يذهب أفلاطون (327-447 ق.م [Platon]) إلى أن "العدالة" تتحدد، أولا، كـ"اعتدال" أو انسجام بين قُوَى النفس (الناطقة، الشهوانية، الغضبية) يُؤدي إلى الفضائل الثلاث: الحكمة، العِفَّة، الشجاعة. غير أن هذه الفضائل لا يُمكن أن تتحقق إلا على أساس قيام فضيلة رابعة هي "العدالة" التي تتمثل في انصراف كل واحد إلى فعل ما عليه القيام به وفق ما زودته الطبيعة به من قدرات. وتُعَدُّ هذه الفضيلة أعظم أسباب الكمال في "المدينة" أو "الدولة"، لأنها تجعل كل واحد (من الأطفال والنساء والعبيد والأحرار والصُّنَّاع والحاكمين والمحكومين) يؤدي عمله دون أن يتدخل في عمل الآخرين. فـ"العدالة"، إذًا، اعتدالٌ بين قُوَى المجتمع يجعل الاعتدال بين قُوَى النفس ممكنا.
ونجد أن أرسطو يرى أن "العدل" (la justice) و"الإنصاف" (l’équité) متماثلان من جهة طبيعتهما النوعية  دون أن تكون لهما نفس الصفات. وعلى الرغم من أن كُلًّا منهما مرغوب فيه، فإن "الإنصاف" مُفَضَّلٌ على "العدل"، لأنه ليس مجرد حكم وفق ما يقتضيه القانون كقاعدة عامة، بل هو تناولُ كل حالة بما تستحق بما هي حالة خاصة لا يكفي فيها الاعتماد على ما هو عام. لذا، فإن «الطبيعة الخاصة بالإنصاف تتمثل في تصحيح القانون، في المدى الذي يبدو غير كافٍ، بسبب طابعه العام. فالقانون لا يشتمل على كل شيء ».
غير أن ماكس شيلر (1874-1928 [Max scheller]) يرى أن اعتبار العدالة كمساواة كاملة بين الناس في كل شيء يجعلها جائرة، لأنها تُؤدِّي إلى خَفْض الأشخاص المحظوظين إلى مستوى المحرومين الذين يوجدون في أسفل السُّلَّم. لذا، يجب النظر إلى العدالة كإنصاف يراعي الاختلافات والفروق بين الناس من حيث إنهم يتفاوتون فيما بينهم على أكثر من مستوى، مما يجعل المساواة المنشودة تُعبِّر في الواقع عن نوع من الحقد تجاه القيم العليا.
وفي نفس السياق، يرى جون راولز (1921-2002 [John Rawls]) أن النظر إلى العدالة كإنصاف يقتضي توزيع الامتيازات بطريقة تضمن التعاون الإرادي لكل أعضاء المجتمع، وذلكـ باعتماد مبدأين مختلفين، يفرض أولهما المساواة في الحقوق والواجبات الأساسية، في حين يفرض ثانيهما عدم المساواة اجتماعيا واقتصاديا. ويمثل هذان المبدآن قاعدة مُنْصِفَة تُمَكِّن المحظوظين من أن يضمنوا تعاون باقي الشركاء من المحرومين الذين يجدون، بمقتضى مبدإ تكافؤ الفرص، أنه بإمكانهم الاستفادة من نفس الحقوق الأساسية وبلوغ نفس المراتب. وهكذا، فإن العدالة "مساواة" تُـقِرُّ نَفْسَ الحقوق والواجبات بالنسبة لكل المواطنين، وفي الآن نفسه هي "إنصاف" يأخذ بعين الاعتبار الأوضاع الخاصة بالمحظوظين والمحرومين معا من دون الإجحاف في حق أي منهم.    
* تركيب واستنتاج
تُعتبَر العدالة مساواةً بين الناس في الحقوق والواجبات. لكن إقرار العدالة كمبدإ لتوزيع الخيرات في المجتمع يحتاج إلى النظر في الأوضاع الخاصة بمختلف الفئات بموجب قاعدة "الإنصاف" التي تُمَكِّن المحرومين من الاستفادة من الخيرات ولا تضع عوائق أمام المحظوظين ذوي الامتيازات، وذلكـ على النحو الذي يُؤدِّي إلى تعاون الجميع لبناء العدالة كنظام اجتماعي مُنْصفٍ يضمن مصلحة كل الأفراد والجماعات في إطار نظام ديموقراطي عادل.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
PageRank Actuel Licence Creative Commons
Licence Creative Commons Attribution - Pas d'Utilisation Commerciale - Partage à l'Identique 2.0 France.